الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ فِي الْقُرْآنِ كَفَعَّالٍ وَفَعِيلٍ وَفَعْلَانٍ؛ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ " فَاعِلٍ ". وَيَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَارِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ " ضَرُوبًا " نَابَ عَنْ قَوْلِكَ: " ضَارِبٌ وَضَارِبٌ وَضَارِبٌ ". أَمَّا " فَعْلَانُ " فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " فَعِيلٍ "، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ- وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ " فَعِيلٍ "- مِنْ جِهَةِ أَنْ " فَعْلَانِ " مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ؛ كَغَضْبَانَ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ فِي تَأْلِيفِهِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ شَاعِرِ الْيَمَامَةِ: وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا *** فَهُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ، كَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّعَنُّتَ لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ إِطْلَاقِهِمْ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الرَّحْمَنَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ مُضَافًا وَمُنَكَّرًا، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ. وَأَجَابَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ: " لَا زِلْتَ ذَا رَحْمَةٍ " وَلَمْ يُرِدْ الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ هَذَا الِاسْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الْإِسْرَاءِ: 110) وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (الْفُرْقَانِ: 60) فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جَهِلُوا الصِّفَةَ دُونَ الْمَوْصُوفِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا: " وَمَنِ الرَّحْمَنُ؟ ". وَذَكَرَ الْبُرْزَابَاذَانِيُّ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي تَفْسِيرِ " الرَّحْمَنِ " حَيْثُ جَعَلُوهُ بِمَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ الْعَادِلُ؛ بِدَلِيلِ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (الْفُرْقَانِ: 26) إِذِ الْمُلْكُ يَسْتَدْعِي الْعَظَمَةَ وَالْقُدْرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِخَلْقِهِ؛ لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} (الْفُرْقَانِ: 60) وَإِنَّمَا يَصْلُحُ السُّجُودُ لِمَنْ لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ، وَ{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 18) وَلَا يُعَاذُ إِلَّا بِالْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحِفْظِ وَالذَّبِّ. {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (مَرْيَمَ: 92) أَيْ: وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْمُسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الْوَالِدِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. {الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} (النَّبَأِ: 37). {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} (طه: 108). {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 42) وَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى حَافِظٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ ذِي الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ. {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مَرْيَمَ: 93). {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 45). {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 112). {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (ق: 33). وَلَا مُنَاسَبَةَ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَأَمَّا " رَحِيمٌ " فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، كَقَوْلِهِمْ: " كَرِيمٌ ". وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ " الرَّحْمَنَ " أَبْلَغُ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَحَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ " عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِمُ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ التَّنْبِيهِ، وَالتَّنْبِيهُ تَضْعِيفٌ، وَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ؛ وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّوْكِيدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ، قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ " رَحِيمًا " أَبْلَغُ بِجَيِّدٍ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ، وَلَوْ قِيلَ: " فَعْلَانٌ " أَشَدُّ مُبَالَغَةً كَانَ أَوْلَى، وَلِهَذَا خُصَّ بِاللَّهِ؛ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ؛ وَأَرَادَ بِهِ مَنْعَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَّسِمُوا بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا التَّوْكِيدُ وَإِتْبَاعُ الْأَوَّلِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ ". وَعَنِ الْخَطَّابِيِّ اسْتِشْكَالُ هَذَا، وَقَالَ: لَعَلَّهُ أَرْفَقُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي " الزَّاهِرِ ": الرَّحِيمُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الرَّحْمَنَ جَاءَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّحِيمِ، وَلَوْ كَانَ أَبْلَغُ لَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَقُولُونَ: فَقِيهٌ عَالِمٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ، وَلَا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى. وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرْدَافِ، وَأَنَّهُ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ؛ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ؛ لِيَتَنَاوَلَ مَا رَقَّ مِنْهَا وَلَطَفَ. وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ لَا صِفَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ، وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ " بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّحْمَنُ كَالْعَلَمِ- إِذْ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ- قُدِّمَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَعْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِفِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يُتْبَعَ الْأَنْكَرَ، وَمَا كَانَ فِي التَّعْرِيفِ أَنْقَصُ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، فَجَاءَ هَذَا عَلَى مِنْهَاجِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ لِلْخَلْقِ، وَالرَّحِيمَ لَهُمْ بِالرِّزْقِ، وَالْخَلْقُ قَبْلَ الرِّزْقِ. وَمِنْهَا أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي حَقِّهِ، وَالنِّهَايَةُ فِي صِفَاتِهِ، وَأَكْثَرُ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى " فَعِيلٍ " كَرَحِيمٍ، وَقَدِيرٍ، وَعَلِيمٍ، وَحَكِيمٍ، وَحَلِيمٍ، وَكَرِيمٍ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَى " فَعْلَانٍ " إِلَّا قَلِيلٌ، وَلَوْ كَانَ " فَعْلَانٌ " أَبْلَغَ لَكَانَ صِفَاتُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ. قُلْتُ: وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ وُرُودَ " فَعْلَانٍ " بِصِيغَةِ التَّكْثِيرِ كَانَ فِي عَدَمِ تَكْرَارِ الْوَصْفِ بِهِ، بِخِلَافِ " فَعِيلٍ " فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِقَّ فِي الْكَثْرَةِ رِقَّتَهُ كَثُرَ فِي مَجِيءِ الْوَصْفِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي " فَعْلَانٍ " مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ التَّثْنِيَةِ- كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ- فَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ كَعَبِيدٍ وَكَلِيبٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَكْثَرُ مِنَ التَّثْنِيَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُهَا. قَالَ: وَقَوْلُ قُطْرُبٍ: " إِنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ " فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَيَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. تنبيهاتٌ: [صِيَغُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ] صِيَغُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ فِي الْقُرْآنِ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الرَّشِيدِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كَغَفَّارٍ وَرَحِيمٍ وَغَفُورٍ وَمَنَّانٍ كُلُّهَا مَجَازٌ؛ إِذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ هِيَ أَنْ تُثْبِتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، وَصِفَاتُ اللَّهِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ، لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا، وَالْمُبَالَغَةُ أَيْضًا تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَذُكِرَ هَذَا لِلشَّيْخِ ابْنِ الْحَسَنِ السُّبْكِيِّ فَاسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا صِفَاتٌ. فَإِنْ قُلْنَا: أَعْلَامٌ؛ زَالَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً؛ إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدِينَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ يَجِبُ تَنْزِيلُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ؛ كَالرَّحْمَنِ وَالْغَفُورِ وَالتَّوَّابِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَبْقَى إِشْكَالٌ حِينَئِذٍ؛ لِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي حَكِيمٍ: مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حِكَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، نَزَّلَ صَاحِبَهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسِعَةِ كَرَمِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْبَقَرَةِ: 284) وَهُوَ أَنَّ " قَدِيرًا " مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى " قَادِرٍ "، وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى " قَادِرٍ " مُحَالٌ؛ إِذْ الِاتِّحَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهَا كُلُّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا، وَالْمُبَالَغَةُ إِذَنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ التَّعَلُّقِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْوَصْفِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 282) يَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى نَفْسِ الْوَصْفِ؛ إِذِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِيهِ، فَيَجِبُ صَرْفُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ، إِمَّا لِعُمُومِ كُلِّ أَفْرَادِهِ، وَإِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الشَّيْءَ وَلَوَاحِقَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ. الثَّانِي: سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَلْ تَدْخُلُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: " عَلَّامَةٌ "؟ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْإِنَاثَ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ، فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ. حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ ". الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جُرِّدَ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لَمْ يُصْرَفْ؛ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي آخِرِهِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ " فَعْلَانٌ " صِفَةً مِنَ الصَّرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُؤَنَّثُهُ " فَعَلَى " كَغَضْبَانَ وَغَضْبَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَنَّثُهُ " فَعْلَى " يَنْصَرِفُ كَنَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ " رَحْمَنَ "- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى فَعْلَى- فَلَيْسَ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى " فَعْلَانَةٍ "؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا مُؤَنَّثَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْقِيَاسِ، وَكُلُّ أَلِفٍ وَنُونٍ زَائِدَتَانِ فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْبِهْ " غَضْبَانَ " وَلَمْ يُشْبِهْ " نَدْمَانَ " مِنْ جِهَةِ التَّأْنِيثِ فَلِمَاذَا تُرِكَ صَرْفُهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ؟! بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ كَغَضْبَانَ؛ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ كَنَدْمَانَ فَلَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ لَيْسَ بِالشَّبَهِ، إِنَّمَا هُوَ بِالْأَصْلِ، وَعَدَمُ الصَّرْفُ بِالشَّبَهِ وَلَمْ يُوجَدْ. قُلْتُ: وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَدْفَعُ هَذَا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ، نَعَمْ أَنْكَرَ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ تَمْثِيلَهُ بِـ " الرَّحْمَنِ " لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَقَالَ: لَمْ يُمَثِّلْ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِهِ، فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ بِالْغَلَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُجَرَّدْ مِنْ " الْ " وَلَمْ يُسْمَعْ مُجَرَّدًا إِلَّا فِي النِّدَاءِ قَلِيلًا مِثْلُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ. قَالَ: وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَى الشَّاطِبِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: تَبَارَكَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَمَوْئِلًا *** لِأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ. وَلَمْ يَحْضُرِ الزَّمَخْشَرِيَّ هَذَا الْجَوَابُ؛ فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا " فَعِيلٌ " فَعِنْدَ النُّحَاةِ أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ؛ كَرَحِيمٍ وَسَمِيعٍ، وَقَدِيرٍ، وَخَبِيرٍ، وَحَفِيظٍ، وَحَكِيمٍ، وَحَلِيمٍ، وَعَلِيمٍ؛ فَإِنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنْ فَاعِلٍ بِالنِّسْبَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِلْفَاعِلِ لَا لِلْمَفْعُولِ بِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ، وَالْقَتْلُ لَا يَتَفَاوَتُ. وَقَدْ يَجِيءُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النِّسَاءِ: 69) وَقَوْلِهِ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التَّحْرِيمِ: 4) وَقَوْلِهِ: {خَلَصُوا نَجِيًّا} (يُوسُفَ: 80) وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْمُشْكَلِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مَرْيَمَ: 64) فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ أَصْلِ النِّسْيَانِ، وَهُوَ كَالسُّؤَالِ الْآتِي فِي (ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيَخْتَصُّ هَذَا بِجَوَابٍ آخَرَ؛ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ رُءُوسِ الْآيِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا فَعَّالٌ فَنَحْوَ: غَفَّارٍ، وَمَنَّانٍ، وَتَوَّابٍ، وَوَهَّابٍ {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (الْبُرُوجِ: 16) {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (الْمَائِدَةِ: 116) وَنَحْوَ: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إِبْرَاهِيمَ: 5) وَنَحْوَ: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} (الْمَعَارِجِ: 16). وَمِنَ الْمُشْكَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فُصِّلَتْ: 46) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ، وَالْوَاقِعُ نَفْيُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (يُونُسَ: 44) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النِّسَاءِ: 40). وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ جَوَابًا: أَحَدُهَا: أَنَّ " ظَلَّامًا " وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَكِنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابِلِهِ " الْعَبِيدُ " وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ إِذَا قُوبِلَ بِهِمُ الظُّلْمُ كَانَ كَثِيرًا. وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (الْمَائِدَةِ: 116) فَقَابَلَ صِيغَةَ " فَعَّالٍ " بِالْجَمْعِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ} (الْجِنِّ: 26) فَقَابَلَ صِيغَةَ " فَاعِلٍ " الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (النِّسَاءِ: 172) حَيْثُ احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَابَلَ عِيسَى بِمُفْرَدِهِ بِمَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي تَفْضِيلِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ، فَيَنْتَفِي الْقَلِيلُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الظُّلْمَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ ظُلْمِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ كَانَ الظُّلْمُ الْقَلِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَكْثَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النَّسَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَحَكَاهُ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ " عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، أَيْ: ذَا ظُلْمٍ، كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ *** أَيْ بِذِي نُبْلٍ، أَيْ: لَا يُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: بَزَّازٍ وَعَطَّارٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ فَعَّالًا قَدْ جَاءَ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْكَثْرَةَ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً *** وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَحُلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: " يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ " هَذَا بَدَلٌ عَلَى نَفْيِ الْحَالِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْمَدْحِ لَا يَصِلُ بِإِيرَادِ الْكَثْرَةِ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ- وَقَدْ جَلَّ عَنْهُ- لَكَانَ كَثِيرًا؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، كَمَا يُقَالُ: " زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ ". ذَكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي " الدُّرَّةِ " قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَوْلِهِ: كَفُوفَةِ الظُّفْرِ تَخْفَى مِنْ حَقَارَتِهَا *** وَمِثْلَهَا فِي سَوَادِ الْعَيْنِ مَشْهُورُ السَّادِسُ: أَنَّ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ يَصْدُقُ بِنَفْيِ وَاحِدٍ، وَيَصْدُقُ بِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيُعَيَّنُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النِّسَاءِ: 40). السَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ: " لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ " فَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهِ ذَلِكَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} (فُصِّلَتْ: 46). الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: ظَلَّامٌ، وَالتِّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، كَمَا إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: " بِظَلَّامٍ "؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَنْ يُعَذِّبُ غَيْرَهُ عَذَابًا شَدِيدًا ظَلَّامٌ قَبْلَ الْفَحْصِ عَنْ جُرْمِ الذَّنْبِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا وَغَيْرُ الْمُبَالَغَةِ سَوَاءً فِي الْإِثْبَاتِ جَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ ثَمَّةَ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ. وَأَمَّا " فُعَالٌ " بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ عُجَابٌ وَكُبَارٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) وَقَالَ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (نُوحٍ: 22) قَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي " اللَّامِعِ الْعَزِيزِيِّ ": " فَعِيلٌ " إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ نُقِلَ بِهِ إِلَى " فُعَالٍ " وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الزِّيَادَةُ شَدَّدُوا فَقَالُوا: " فُعَّالٌ "، ذَلِكَ مِنْ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالُوا: طَوِيلٌ وَطُوَّالٌ، وَيُقَالُ: نَسَبٌ قَرِيبٌ وَقُرَابٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ؛ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ: وَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ بَنِي لُؤَيٍّ *** عَرَفْتُ الْوُدَّ وَالنَّسَبَ الْقُرَابَا وَأَمَّا " فَعُولٌ ": كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إِبْرَاهِيمَ: 34). وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 3). وَقَدْ أَطْرَبَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سَبَأٍ: 13) فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا قَالَ " الشَّاكِرُ ". فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 3) كَيْفَ غَايَرَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ وَجَعَلَ الْمُبَالَغَةَ مِنْ جَانِبٍ الْكُفْرَانِ؟ قُلْتُ: هَذَا سَأَلَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ، فَأَجَابَ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ شُكْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا قَلِيلٌ، وَكُلُّ كُفْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا عَظِيمٌ، فَجَاءَ " شَكُورٌ " بِلَفْظِ " فَاعِلٍ "، وَجَاءَ " كَفُورٌ " بِلَفْظِ " فَعُولٍ " عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الصَّاحِبِ. وَأَمَّا فَعِلٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 56). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّابٌ أَشِرٌ} (الْقَمَرِ: 25) قَرَنَ " فَعِلًا " بِفَعَّالٍ. وَأَمَّا فُعَلٌ: فَيَكُونُ صِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} (الْبَلَدِ: 6) اللُّبَدُ: الْكَثِيرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (الْمُدَّثِّرِ: 35). وَيَكُونُ مَصْدَرًا كَهُدَى وَتُقَى، وَيَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ أَفْعُلٍ مِنْ كَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (الْبَقَرَةِ: 184) كَمَا قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} (الْأَنْعَامِ: 19). وَأَمَّا فُعْلَى: فَيَكُونُ اسْمًا، كَالشُّورَى وَالرُّجْعَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (الْعَلَقِ: 8) وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التَّوْبَةِ: 40). وَيَكُونُ صِفَةً كَالْحُسْنَى فِي تَأْنِيثِ الْأَحْسَنِ، وَالسُّوءَى فِي تَأْنِيثِ الْأَسْوَأِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} (الرُّومِ: 10). قَالَ الْفَارِسِيُّ: يَحْتَمِلُ السُّوأَى تَأْوِيلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْنِيثَ " الْأَسْوَأِ " وَالْمَعْنَى كَانَ عَاقِبَتَهُمْ لِخَلَّةِ السُّوأَى، فَتَكُونُ " السُّوأَى " عَلَى هَذَا خَارِجَةً مِنَ الصِّلَةِ، فَتُنْصَبُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَمَوْضِعُ " أَنْ " نَصْبٌ، فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: كَانَ عَاقِبَتَهُمُ الْخَصْلَةَ السُّوأَى لِتَكْذِيبِهِمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السُّوأَى مَصْدَرًا مِثْلَ الرُّجْعَى، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَمُنْتَصِبَةٌ بِأَسَاءُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 8) وَيَكُونُ أَنْ كَذَّبُوا نَصْبًا؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ " السُّوأَى " وَجْهٌ ثَالِثٌ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةَ " الْعَاقِبَةِ " وَتَقْدِيرُهَا: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْمَذْمُومَةُ التَّكْذِيبَ. وَ " الْفُعْلَى " فِي هَذَا الْبَابِ- وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صِفَةً، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} (الْأَنْفَالِ: 42) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} (النَّازِعَاتِ: 20)، فَجَرَتْ صِفَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا- فَإِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ تُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ؛ كَالْأَبْطَحِ وَالْأَجْرَعِ وَالْأَدْهَمِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرَّحْمَنِ: 22) وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَإِنَّمَا تُخْرَجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمِلْحِ، وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ حَيْثُ قَالَ يَذْكُرُ الدُّرَّةَ: فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ *** يَدُومُ الْفُرَاتُ فَوْقَهَا وَيَمُوجُ وَالْفُرَاتُ لَا يَدُومُ فَوْقَهَا؛ وَإِنَّمَا يَدُومُ الْأُجَاجُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزُّخْرُفِ: 31): إِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ جَمِيعًا؛ وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ: " رَجُلٍ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (نُوحٍ: 16) أَيْ: فِي إِحْدَاهُنَّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} (الْكَهْفِ: 61) وَالنَّاسِي كَانَ يُوشَعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِمُوسَى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} (الْكَهْفِ: 63) وَلَكِنْ أُضِيفَ النِّسْيَانُ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِسُكُوتِ مُوسَى عَنْهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (الْبَقَرَةِ: 203) وَالتَّعْجِيلُ يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (الْبَقَرَةِ: 203) قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَإِنَّ مَوْضِعَ الْإِثْمِ وَالتَّعْجِيلِ يَجْعَلُ الْمُتَأَخِّرَ الَّذِي لَمْ يُقَصِّرْ مِثْلَ مَا جَعَلَ لِلْمُقَصِّرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ مُقَصِّرٌ؛ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُؤَثِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} (الْأَعْرَافِ: 190) أَيْ: أَحَدُهُمَا، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ {فَالْجُنَاحُ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا أَعْطَى؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: الْمَعْنَى: فَإِنْ خِيفَ مِنْ أَحَدِهِمَا ذَلِكَ جَازَتِ الْفِدْيَةُ، وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى عَدَمِ الْإِقَامَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} (ق: 24) قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمَلِكِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ثَنَاهُ عَلَى " أَلْقِ " وَالْمَعْنَى: أَلْقِ أَلْقِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي " قِفَا " وَخَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَالَ: بَلْ هُوَ مُخَاطَبَةٌ لِلْمَلَكَيْنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرَّحْمَنِ: 13) قَالَ يُخَاطِبُ الْإِنْسَانَ مُخَاطَبَةً بِالتَّثْنِيَةِ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّتَيْنِ فَقِيلَ: جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى آخِرَ الْآيَةِ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} (الْكَهْفِ: 35) فَأَفْرَدَ بَعْدَ مَا ثَنَى. وَقَوْلِهِ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} (الْكَهْفِ: 33) فَإِنَّهُ مَا ثَنَّى إِلَّا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ، وَأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ رَأَيْتَ فِي كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَيْكَ قُرَّةً، وَصَدْرَكَ مَسَرَّةً. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الْمَائِدَةِ: 116)، وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ مَرْيَمَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: " وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ " قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " الْقَدِّ " وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ جِنِّي وَغَيْرُهُ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ *** وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ *** وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: عَشِيَّةَ سَالَ الْمِرْبَدَانِ كِلَاهُمَا *** سَحَابَةَ مَوْتٍ بِالسُّيُوفِ الصَّوَارِمِ وَإِنَّمَا هُوَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: " وَدَارٍ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ ". وَقَوْلُهُ: " بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ ". وَقَوْلُ جَرِيرٍ: لَمَّا مَرَرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي *** صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيسِ قَالُوا: أَرَادَ " دَيْرَ الْوَلِيدِ " فَثَنَّاهُ بِاعْتِبَارِ مَا حَوْلَهُ.
كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 51) إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 54) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ؛ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَمِثْلُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزُّخْرُفِ: 32) الْآيَةَ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَرِيكَ فِيهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجْرِي عَلَى أَيْدِي خَلْقِهِ نُزِّلَتْ أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ قَبُولِ الْقَوْلِ بِمَوْرِدِ الْجَمْعِ. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النَّمْلِ: 37) وَالرَّسُولُ كَانَ وَاحِدً؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} (النَّمْلِ: 37). وَفِيهِ نَظَرٌ؛ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مُخَاطَبَةَ رَئِيسِهِمْ، فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا. وَمِنْهُ: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} (الشُّعَرَاءِ: 21) وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ. وَمِنْهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} (النَّحْلِ: 2) وَالْمُرَادُ جِبْرِيلُ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النِّسَاءِ: 54) وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (آلِ عِمْرَانَ: 173) وَالْمُرَادُ بِهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِنَّمَا جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ، حَسُنَ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الْكُلِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} (الْبَقَرَةِ: 72) {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (الْبَقَرَةِ: 55) وَالْقَائِلُ ذَلِكَ رُءُوسُهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، دَسَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الْمُلْكِ: 4) فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ فَهُوَ جَمْعٌ، وَالْمَعْنَى " كَرَّاتٌ "؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِالْجَمْعِ. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الْبَقَرَةِ: 229)
وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّرَ إِذَا رَدَّدَ وَأَعَادَ؛ هُوَ " تَفْعَالٌ " بِفَتْحِ التَّاءِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ بِخِلَافِ التَّفْعِيلِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ مَصْدَرُ " فَعَّلَ "، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ فِي التَّفْعِيلِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ؛ ظَنًّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ مِنْ مَحَاسِنِهَا، لَا سِيَّمَا إِذَا تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي خِطَابَاتِهَا إِذْ أَبْهَمَتْ بِشَيْءٍ إِرَادَةً لِتَحْقِيقِهِ وَقُرْبَ وُقُوعِهِ، أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَرَّرَتْهُ تَوْكِيدًا، وَكَأَنَّهَا تُقِيمُ تَكْرَارَهُ مَقَامَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، أَوْ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، حَيْثُ تَقْصِدُ الدُّعَاءَ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَكَانَتْ مُخَاطَبَاتُهُ جَارِيَةً فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ تَسْتَحْكِمُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (الْقَمَرِ: 17) قَالَ فِي " الْكَشَّافِ ": أَيْ: سَهَّلْنَاهُ لِلِادِّكَارِ وَالِاتِّعَاظِ، بِأَنْ نَسَجْنَاهُ بِالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّكْرَارُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 19- 20) وَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} (الْقِيَامَةِ: 34- 35). وَقَوْلِهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (التَّكَاثُرِ: 6- 7). وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} (النَّبَأِ: 4- 5). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 78). وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} (التَّوْبَةِ: 69). وَفَائِدَتُهُ الْعُظْمَى التَّقْرِيرُ، وَقَدْ قِيلَ: الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْأَخْبَارَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الْقَصَصِ: 51). وَقَالَ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113). وَحَقِيقَتُهُ إِعَادَةُ اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنًى؛ خَشْيَةَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ لِطُولِ الْعَهْدِ بِهِ. فَإِنْ أُعِيدَ لَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى السَّابِقِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزُّمَرِ: 11- 15). فَأَعَادَ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} (الزُّمَرِ: 14) بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لَا لِتَقْرِيرٍ الْأَوَّلِ؛ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ يَخُصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ؛ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي الثَّانِي، وَأَخَّرَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ؛ وَثَانِيًا فِيمَنْ فُعِلَ لِأَجْلِهِ الْفِعْلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ سُؤَالُ الْحِكْمَةِ عَنِ التَّكْرَارِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ، أَمَّا إِذَا وَافَقَ الْأَصْلَ فَلَا، وَلِهَذَا لَا يَتَّجِهُ سُؤَالُهُمْ: لِمَ كَرَّرَ " إِيَّاكَ " فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؟. فَقِيلَ: إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا تَقُولُ: " بَيْنَ زَيْدٍ وَبَيْنَ عَمْرٍو مَالٌ ". وَقِيلَ: إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِارْتِفَاعِ أَنْ يُتَوَهَّمَ- إِذَا حُذِفَتْ- أَنَّ مَفْعُولَ " نَسْتَعِينُ " ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفِعْلِ، فَتَفُوتُ إِذْ ذَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ؛ لِأَنَّ هُنَا عَامِلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَعْمُولًا، فَإِذَا ذُكِرَ مَعْمُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَقَدْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ ذِكْرِ مَا الْأَصْلُ ذِكْرُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْهُ، وَقِسْ بِذَلِكَ نَظَائِرَهُ. وَلَهُ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: التَّأْكِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ؛ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تَكْرَارِ التَّأْسِيسِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُقَرِّرُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَدَمَ التَّجَوُّزِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 3- 4): " إِنَّ الثَّانِيَةَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ "؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَةَ أَبْلَغَ فِي الْإِنْشَاءِ، فَقَالَ: وَفِي (ثُمَّ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ ". وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (الِانْفِطَارِ: 17- 18) وَقَوْلُهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 19- 20) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ: هَلْ هُوَ إِنْذَارُ تَأْكِيدٍ، أَوْ إِنْذَارَانِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: " سَوْفَ تَعْلَمُ، ثُمَّ سَوْفَ تَعْلَمُ " كَانَ أَجْوَدُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَطْفٍ؛ لِتُجْرِيَهُ عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ التَّأْكِيدِ، وَلِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِتَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَأَطْلَقَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي " شَرْحِ الْخُلَاصَةِ " أَنَّ الْجُمْلَةَ التَّأْكِيدِيَّةَ قَدْ تُوصَلُ بِعَاطِفٍ، وَلَمْ تَخْتَصَّ بِثُمَّ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ وَالِدِهِ التَّخْصِيصَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الْحَشْرِ: 18) فَإِنَّ الْمَأْمُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، وَرَجَّحُوا ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ " التَّقْوَى " الْأُولَى مَصْرُوفَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ " التَّقْوَى " الثَّانِيَةِ مَعَ شَأْنِ إِرَادَتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ، فَمُرَادُهُمْ تَأْكِيدُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرِيرِ الْإِنْشَاءِ، لَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، وَلَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لَمَا فُصِلَ بِالْعَطْفِ، وَلَمَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ} (الْحَشْرِ: 18). فَإِنْ قُلْتَ: " اتَّقُوا " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى " وَلْتَنْظُرْ ". أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (الْبَقَرَةِ: 83) مَعْطُوفٌ عَلَى {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (الْبَقَرَةِ: 83) لَا عَلَى قَوْلِهِ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الْبَقَرَةِ: 83) وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 42) وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 1198) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " اصْطِفَاءَيْنِ " وَ " ذِكْرَيْنِ " وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ طُلِبَ فِيهِ تَكْرَارُ الذِّكْرِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (طه: 33- 34) وَلَمْ يَقُلْ: " نُسَبِحُكَ وَنَذْكُرُكَ كَثِيرًا ". وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} (الرَّعْدِ: 5) كَرَّرَ أُولَئِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5). وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} (الْقَصَصِ: 19) إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (الْقَصَصِ: 19) كُرِّرَتْ " أَنْ " فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ تَأْكِيدًا. وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (الزُّمَرِ: 11- 12). الثَّانِي: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (غَافِرٍ: 38- 39) فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ. الثَّالِثُ: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ أُعِيدَ ثَانِيًا تَطْرِيَةً لَهُ، وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النَّحْلِ: 119). وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} (النَّحْلِ: 110) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 89) ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَمَّا لَا تَجِيءُ بِالْفَاءِ. وَمِثْلُهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 188) ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 188). وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 253) ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 253). وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يُوسُفَ: 4). وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 35) فَقَوْلُهُ: {أَنَّكُمْ} الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ إِذْكَارًا بِهِ خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الرُّومِ: 7). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصَّافَّاتِ: 105 إِلَى 107) إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الصَّافَّاتِ: 105). بِغَيْرِ (إِنَّا) وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرَ (إِنَّا كَذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ قَوْلِهِ: " إِنَّا كَذَلِكَ " فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ فِيمَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا، وَلِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالنِّسْبَةِ، فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُونَ تَوْكِيدِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ؛ وَهَذَا أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ، وَقَلَّ فِي الْقُرْآنِ وَجُودُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ تَقَدُّمِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، كَالْمُبْتَدَأِ، وَحُرُوفِ الشَّرْطَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ أَمْرٍ مَحْذُورِ التَّنَاسِي. وَقَدْ يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ بِنَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ؛ بِأَنْ تَتَقَدَّمَ التَّفَاصِيلُ وَالْجُزْئِيَّاتُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا التَّنَاسِي لِطُولِ الْعَهْدِ بِهَا بَنَى عَلَى مَا سَبَقَ بِهَا بِالذِّكْرِ الْجُمْلِيِّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ} (النِّسَاءِ: 155) إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النِّسَاءِ: 161) فَقَوْلُهُ (فَبِظُلْمٍ) بَيَانٌ لِذِكْرِ الْجُمْلِيِّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ جُمْلِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفَاصِيلِ مِنَ النَّقْضِ وَالْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (النِّسَاءِ: 155) وَالْقَوْلُ عَلَى مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ، وَدَعْوَى قَتْلِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الِاعْتِرَاضِ بِهَا مَوْضِعَيْنِ وَهُمَا: قَوْلُهُ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النِّسَاءِ: 155) وَقَوْلُهُ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النِّسَاءِ: 157) إِلَى قَوْلِهِ: {شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 159) وَدُونَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ بِالْبِنَاءِ جُمْلِيَّ الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِهِ: " فَبِظُلْمٍ "؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَيَنْطَوِي عَلَيْهِ ذُكِرَ حِينَئِذٍ مُتَعَلِّقُ الْجُمْلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النِّسَاءِ: 155) عَقِبَ الْبَاءِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَصْلِ حَقُّهُ أَنْ يَلِيَ مَعْمُولَهُ فَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} (النِّسَاءِ: 160) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَبِظُلْمٍ (النِّسَاءِ: 160) وَقَدِ اشْتَمَلَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي عُدِّدَتْ بَعْدَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؛ فَذُكِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْأَوْلَى بِخُصُوصِ كُلٍّ وَاحِدٍ، ثُمَّ ذُكِرَ الْعَامُّ الْمُنْطَوِي عَلَيْهَا، فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، ثُمَّ ذُكِرَتْ جُزْئِيَّاتٌ أُخَرَ بِخُصُوصِهَا، فَتَرْكِيبُ الْأَسَالِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ التَّعْمِيمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، ثُمَّ الْبِنَاءُ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} (الْفَتْحِ: 25) إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابًا أَلِيمًا} (الْفَتْحِ: 25) فَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (الْفَتْحِ: 25) إِلَى قَوْلِهِ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الْفَتْحِ: 25) هُوَ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلُ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَوْلُهُ: (لَوْ تَزَيَّلُوا) (الْفَتْحِ: 25) هُوَ الْمُقْتَضَى الثَّانِي، وَهُوَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ الْمُذَكِّرُ بِالْمُقْتَضَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ " لَوْلَا " خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) (الْفَتْحِ: 25) وُرُودًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ أُخِذَا مَعًا، كَأَنَّهُمَا مُقْتَضًى مُنْفَرِدٌ، مِنْ حَيْثُ هُمَا وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمَاضِي، فَقَوْلُهُ: (لَوْ تَزَيَّلُوا) (الْفَتْحِ: 25) بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: (وَلَوْلَا رِجَالٌ) (الْفَتْحِ: 25) نَظَرَ فِي الْمُضَارَعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النَّحْلِ: 119) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَأَصْلَحُوا} وَيَكُونُ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ لَا تَكْرِيرًا. وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} (النَّحْلِ: 106) ثُمَّ قَالَ: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (النَّحْلِ: 106). وَقَوْلَهُ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (الْفَتْحِ: 25) ثُمَّ قَالَ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} (الْفَتْحِ: 25) وَنَازَعَهُ الْعِرَاقِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَ فِيهِمَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ التَّكْرِيرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا. الرَّابِعُ: فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2) {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} (الْقَارِعَةِ: 1- 2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1- 2). وَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} (الْوَاقِعَةِ: 27). وَقَوْلِهِ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} (الْوَاقِعَةِ: 8- 9). وَقَوْلِهِ: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (الْمُدَّثِّرِ: 31). الْخَامِسُ: فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 4- 5) وَذِكْرُ (ثُمَّ) فِي الْمُكَرَّرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَإِنْ تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيرٌ؛ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمًا. السَّادِسُ: التَّعَجُّبُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 19- 20) فَأُعِيدَ تَعَجُّبًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ الْغَرَضَ عَلَى حَدِّ: قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ. السَّابِعُ: لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرَّحْمَنِ: 13) فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتْ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَا الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ، فَكُلَّمَا ذَكَرَ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ النِّعَمِ طَلَبَ إِقْرَارَهُمْ وَاقْتَضَاهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَصُوَرٌ شَتَّى. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَكْرِيرِهَا عَدُّ النِّعَمِ وَاقْتِضَاءُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا؛ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} (الرَّحْمَنِ: 35)؟ وَأَيُّ نِعْمَةٍ هُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ؟! قِيلَ: إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ فِيمَا أَنْذَرَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوبَاتِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لِيَحْذَرُوهَا فَيَرْتَدِعُوا عَنْهَا، نَظِيرُ أَنْعُمِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُ، وَبَشَّرَ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى طَاعَتِهِ؛ لِيَرْغَبُوا فِيهَا وَيَحْرِصُوا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِأَنْ تَعْتَبِرَهُ بِضِدِّهِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَقَابَلَا فِي ذَوَاتِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَوْضِعِ النِّعَمِ بِالتَّوْقِيتِ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الشُّعَرَاءِ: وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا *** فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِتَعْلَمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَوْ كَانَ عَائِدًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ، بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ أُرِيدَ بِهَا غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ. قُلْتُ: إِنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَوْجِيهِ الْعِدَّةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَاءَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كُرِّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً؛ لِأَنَّ سِتَّ عَشْرَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِنَانِ؛ لِأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، فَأَعْظَمُ النِّقَمِ جَهَنَّمُ، وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، وَجَاءَتْ سَبْعَةٌ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، وَسَبْعَةٌ عَقِبَ كُلِّ نِعْمَةٍ ذَكَرَهَا لِلثَّقَلَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَبَّهَ فِي سَبْعٍ مِنْهَا عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى عِدَّةِ أُمَّهَاتِ النِّعَمِ، وَأَفْرَدَ سَبْعًا مِنْهَا لِلتَّخْوِيفِ، وَإِنْذَارًا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالسَّبْعِ الثَّوَانِي بِوَاحِدَةٍ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَنَاءِ، حَيْثُ اتَّصَلَتْ بِقَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 26) فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ، أُتْبِعَتْ بِثَمَانِيَةٍ فِي وَصْفِ الْجِنَانِ وَأَهْلِهَا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِهَا، ثُمَّ بِثَمَانِيَةٍ أُخَرَ فِي وَصْفِ الْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا، فَاسْتُكْمِلَتْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (الْآيَةَ: 15) فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ عَشْرُ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً، وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ: " وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكُلُّ قِصَّةٍ مُخَالِفَةٌ لِصَاحِبَتِهَا " فَأَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَجَعَلَ لِلْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الثَّوَابِ وَيْلٌ. وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الْآيَةَ: 8- 9) فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ؛ لِأَجْلِ الْوَعْظِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَثَّرُ بِالتَّكْرَارِ مَنْ لَا يَتَأَثَّرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فَذَلِكَ لِظُهُورِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْعَجَبُ مِنْ تَخَلُّفِ مَنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا مَعَ ظُهُورِهَا. وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْأَكْثَرِ فَدَلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى إِيمَانِ الْأَقَلِّ، فَكَانَتِ الْعِزَّةُ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ، وَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ كَتَرْتِيبِ الْفَرِيقَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 4- 5) الْآيَةَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِلْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَحَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلطَّائِعِ وَالْعَاصِي مُتَغَيِّرَةُ الْأَنْوَاعِ: الدُّنْيَوِيَّةُ، ثُمَّ الْبَرْزَخِيَّةُ، ثُمَّ الْحَشْرِيَّةُ، كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الِاسْتِقْرَارِ بَعْدَ الْجَمِيعِ فِي الْغَايَةِ، بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِي " ثُمَّ " دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَقِّي، إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الزَّمَانُ مُرَتَّبًا فِي الْإِنْذَارِ عَلَى التَّكْرَارِ، وَفِي الْمُنْذِرِ بِهِ عَلَى التَّنْوِيعِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} (الْقَمَرِ: 39) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1- 2) إِلَى آخِرِهَا، يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ تِكْرَارًا، وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: " نَعْبُدُ إِلَهَكَ شَهْرًا وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا شَهْرًا " فَجَاءَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ بِالْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ أَلْيَقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الْكَافِرُونَ: 2) أَيْ: لَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (الْكَافِرُونَ: 4) أَيْ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْحَالِ مَا عَبَدْتُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} (الْكَافِرُونَ: 3) فِي الْحَالِ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ: الْحَالُ، وَالْمَاضِي، وَالِاسْتِقْبَالُ؛ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَحَذْفُ الْمَاضِي مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَتِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَقْدِيرٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُكَ: " لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَنَا فَاعِلُهُ " أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ: " لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَفْعَلُهُ "؛ فَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ نَفْيٌ لِإِمْكَانِهِ، وَالِاسْمِيَّةُ نَفْيٌ لِاتِّصَافِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فَاطِرٍ: 22) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنَ الِاتِّصَافِ بِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمْ إِلَّا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الْكَافِرُونَ: 3) فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفَرَّقَ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْيِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (الْكَافِرُونَ: 4) وَقَالَ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الْكَافِرُونَ: 3) عَائِدٌ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَالَ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الْكَافِرُونَ: 2) بِالْمُضَارِعِ، وَفِي الثَّانِي: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (الْكَافِرُونَ: 4) بِالْمَاضِي، فَإِنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمَاضِي، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ مَرَّةً مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ، فَفِيهِ كَمَالُ بَرَاءَتِهِ وَدَوَامُهَا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ مَرَّةً، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الْكَافِرُونَ: 2) فَإِنَّ النَّفْيَ مِنْ جِنْسِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَاهُمَا مُضَارِعٌ يَظْهَرَانِ جُمْلَةً وَمُنْفَرِدًا. وَمِنْهُ تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ: الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنَّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ، وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلُ نَسْخٍ نَزَلَ، وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا. وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَتَهُمَا وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 150) وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أَيْ: الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 146) أَيْ: يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 174- 175) وَقَالَ صَاحِبُ " الْيَنْبُوعِ ": لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ: هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ؛ فَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " الْحِينُ " فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَ " الْحِينُ " فِي هَاتَيْنِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ: (وَأَبْصِرْهُمْ) وَفِي هَاتَيْنِ: (فَأَبْصِرْ) أَنَّ الْأُولَى بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَتْلًا وَأَسْرًا وَهَزِيمَةً وَرُعْبًا، فَمَا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ بِهِمْ قِيلَ لَهُ: (أَبْصِرْهُمْ) وَأَمَّا يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ اقْتَرَنَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ بِتَأْمِينِهِمْ وَالْهِدَايَةُ إِلَى إِيمَانِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ وَفْقًا لِلتَّشَفِّي بِهِمْ؛ بَلْ كَانَ فِي اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ لِعَيْنِهِ قُرَّةً وَلِقَلْبِهِ مَسَرَّةً، فَقِيلَ لَهُ: (أَبْصِرْ). وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَيْ: يُبْصِرُونَ مَنَّكَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ، وَمَنَّنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 10). وَلِلتَّكْرَارِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ إِحْدَاهُمَا؛ كَمَا لَوِ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَحْرُمُ النِّكَاحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِمَا، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّانِيَةَ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفَيْنِ كَذَلِكَ الْمَانِعُ مِنْهُمَا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي؛ وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ؛ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْإِضْرَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ " بَلْ " إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَلْقِ؛ وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا سَبَقَ عَلَى طَرِيقِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ؛ أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى. وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ رَاجِعًا إِلَى الْعِبَادِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (الْأَنْبِيَاءِ: 5). وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا، وَلَكِنَّهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ؛ وَأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النَّمْلِ: 66) {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8). وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ " الْكَافِيَةِ " أَنَّ " بَلْ " حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِغَرَضٍ آخَرَ لَا لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ، وَبِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 26)؛ فَأَضْرَبَ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ، وَأَبْطَلَ كَذِبَهُمْ. وَقَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 166) أَضْرَبَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِهِمُ الذُّكُورَ وَتَرْكِ الْأَزْوَاجِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطَّلَاقِ: 2)، فَالْأَوَّلُ لِلْمُطَلِّقِينَ، وَالثَّانِي لِلشُّهُودِ؛ نَحْوَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (الْبَقَرَةِ: 232) أَوَّلُهَا لِلْأَزْوَاجِ، وَآخِرُهَا لِلْأَوْلِيَاءِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْأَمْثَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (فَاطِرٍ: 19- 20- 21- 22). وَكَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ ثَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ، وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ " قَالَ: " وَلِذَلِكَ أَخَّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ ". وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ، وَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْقَوَاصِمِ ": ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عَنْهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَهِيَ أُمُورٌ:- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ الْقِصَّةَ زَادَ فِيهَا شَيْئًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّةَ فِي عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانًا، فَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَيْسَ كُلَّ حَيَّةٍ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ، أَنْ يُكَرِّرَ أَحَدُهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ أَوْ قَصِيدَتِهِ كَلِمَةً لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يُهَاجِرُ بَعْدَهُ آخَرُونَ يَحْكُونَ عَنْهُ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْأَوَّلِينَ؛ وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِهِ مُهَاجِرِيًّا، فَلَوْلَا تَكَرُّرُ الْقِصَّةِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقِصَصِ فَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا، فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةُ الْقَوْمِ، وَزِيَادَةُ تَأْكِيدٍ وَتَبْصِرَةٍ لِآخَرِينَ وَهُمُ الْحَاضِرُونَ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنَ الصَّادِرِينَ عَنْهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثَةُ: تَسْلِيَتُهُ لِقَلْبِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هُودٍ: 120). الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ، فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ، لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ؛ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ؛ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا، بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَخِرَ الْعَرَبُ بِالْقُرْآنِ قَالَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 23) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} (هُودٍ: 13) فَلَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ مَثَلًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتَفَى بِهَا لَقَالَ الْعَرَبِيُّ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 23) " إِيتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " فَأَنْزَلَهَا سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ السُّوَرِ؛ دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ؛ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ؛ فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ، لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؛ فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُ أَجْزَاءً، ثُمَّ قَسَّمَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ عَلَى تَارَاتِ التَّكْرَارِ لِتُوجَدَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا، وَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْقِصَصُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَأَشْبَهَتْ مَا وُجِدَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً، فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً، وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا، فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا؛ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا، فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا؛ فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ صَارَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي تَارَاتِ التَّكْرِيرِ فَيَجِدُ الْبَلِيغُ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّغْيِيرِ مَيْلًا إِلَى سَمَاعِهَا؛ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي لِكُلٍّ مِنْهَا حِصَّةٌ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظْمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْجَبُونَ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْقِصَصِ وَالْأَنْبَاءِ مَعَ تَغَايُرِ أَنْوَاعِ النَّظْمِ، وَبَيَانِ وُجُوهِ التَّأْلِيفِ، فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ مَرْدُودٌ إِلَى قُدْرَةِ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ نِهَايَةٌ، وَلَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِ عَدَدٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (الْكَهْفِ: 109) وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ....} (لُقْمَانَ: 27) الْآيَةَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَقَاصِيصَ بَنِي إِسْرَئِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقَاصِدِ: أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. الثَّانِي: تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ؛ كَالنَّجَاةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَفَرْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتَفَجُّرِ الْحَجَرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ. الثَّالِثُ: إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِ؛ فَغَيْرُ بِدْعٍ مَا يُعَامِلُهُ بِهِ أَخْلَافُهُمْ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ. وَهُنَا سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسَوْقُهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا فِيهَا مِنْ تَشْبِيبِ النِّسْوَةِ بِهِ، وَتَضَمُّنِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتُتِنَّ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا، وَأَرْفَعِهِمْ مِثَالًا، فَنَاسَبَ عَدَمُ تَكْرَارِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِغْضَاءِ وَالسَّتْرِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " حَدِيثًا مَرْفُوعًا: النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ. الثَّانِي: أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ؛ فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ، كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ. الثَّالِثُ: قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا؛ إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ، كَأَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي تَصْدِيرُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ، فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ فِي قِصَصِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُمْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَرْيَمَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ السُّوَرَ الْأُوَلَ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا نَصْرَ رُسُلِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ، وَنِجَاءِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهَذِهِ السُّوَرُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ؛ بَلْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْمُهُمْ؛ وَلِهَذَا سُمِّيتْ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَذَكَرَ فِيهَا إِكْرَامَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ؛ وَبَدَأَ فِيهَا بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ كَرَامَتِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَهُوَ أَبُ أَكْثَرِهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ أَبُ نُوحٍ وَلُوطٍ؛ لَكِنْ لُوطٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَأَيُّوبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} (الْآيَةَ: 84). وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا امْتِحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَصْرَهُ لَهُمْ، وَحَاجَتَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ، وَذَكَرَ فِيهَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ صَبَرَ، وَعَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، قَالَ فِيهَا: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (الْآيَاتِ: 71، 72، 73) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ؛ إِمَّا بِكَوْنِهِمْ غُلِبُوا وَذُلُّوا، وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ أُهْلِكُوا؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ قِصَّةَ إِلْيَاسَ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ إِهْلَاكَ قَوْمِهِ؛ بَلْ قَالَ: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 127). وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ إِلْيَاسَ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ، وَإِلْيَاسُ الْمَعْرُوفُ بَعْدَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْدَ مُوسَى لَمْ يُهْلِكِ الْمُكَذِّبِينَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَعْدَ نُوحٍ لَمْ يُهْلِكْ جَمِيعَ النَّوْعِ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ نَذِيرًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ؛ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَفِي هَذَا ظُهُورُ بُرْهَانِهِ وَآيَاتِهِ؛ حَيْثُ أَذَلَّهُمْ وَنَصَرَهُ {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} (الصَّافَّاتِ: 98) وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي يُعَرِّضُ عَدُوَّهُ، وَالْقَصَصُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي قَتَلَ عَدُوَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ بَلْ هَاجَرَ وَتَرَكَهُمْ؛ وَأُولَئِكَ الرُّسُلُ لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الْهَلَاكِ؛ وَهُوَ إِقَامَتُهُ فِيهِمْ، وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ النَّازِلِ، وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ قَوْمِهِ، لَمْ يُقِمْ فِيهِمْ؛ بَلْ خَرَجَ عَنْهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يَتُوبُ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ كَمَا جَرَى لِقَوْمِ يُونُسَ، فَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جِنْسِ وَاقِعَتِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: أَمَّا حَالَةُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَمْيَلَ؛ فَلَمْ يَسْعَ فِي هَلَاكِ قَوْمِهِ؛ لَا بِالدُّعَاءِ وَلَا بِالْمَقَامِ وَدَوَامِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 13- 14) وَكَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ هَلَاكَ نَبِيِّهِمْ فَعُوقِبُوا؛ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ أَوْصَلُوهُ إِلَى الْعَذَابِ؛ لَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ؛ إِذِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ؛ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ، وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ؛ فَهُوَ أَشْبَهُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ، وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ، وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ، وَكَذَلِكَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَأَمَّا عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا، وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ، وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ؛ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ، وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ، وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ؛ فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} (مُحَمَّدٍ: 15) فَأَعَادَ ذِكْرَ " الْأَنْهَارِ " مَعَ كُلِّ صِنْفٍ؛ وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا: " أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَمِنْ لَبَنٍ وَمَنْ خَمْرٍ وَمِنْ عَسَلٍ " لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْهَارُ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةً؛ وَفِيمَا عَدَا الْمَاءِ مَجَازًا لِلتَّشْبِيهِ؛ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَعَ الْمَاءِ وَعَطَفَ الْبَاقِي عَلَيْهِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَفْرَدَ ذِكْرَ الْمَاءِ وَجَمَعَ الْبَاقِي صِيغَةً وَاحِدَةً؟ قِيلَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنَ مَحَامِلٍ مِنَ الْمَجَازِ مُخْتَلِفَةٍ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. فَائِدَةٌ قَدْ يَسْتَثْقِلُونَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ فَيَعْدِلُونَ عَنْهُ لِمَعْنَاهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطَّارِقِ: 17)؛ فَإِنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ اللَّفْظُ غَيَّرَ " فَعِّلْ " إِلَى " أَفْعِلْ " فَلَمَّا ثَلَّثَ تَرَكَ اللَّفْظَ أَصْلًا فَقَالَ: " رُوَيْدًا ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} (الْكَهْفِ: 74)، ثُمَّ قَالَ: (إِمْرًا) (الْكَهْفِ: 71). قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ: شَيْئًا مُنْكَرًا كَثِيرَ الدَّهَاءِ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَأَنَا أَسْتَحْسِنُ قَوْلَهُ هَذَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} (الْحَدِيدِ: 13) قَالَ الْفَارِسِيُّ: (وَرَاءَكُمْ) (الْحَدِيدِ: 13) فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ: تَأَخَّرُوا؛ وَالْمَعْنَى ارْجِعُوا تَأَخَّرُوا؛ فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا؛ لِأَنَّ الظُّرُوفَ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا. وَإِذَا تَكَرَّرَ اللَّفْظُ بِمُرَادِفَةٍ جَازَتِ الْإِضَافَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سَبَأٍ: 5) وَالْقَصْدُ الْمُبَالَغَةُ، أَيْ: عَذَابٌ مُضَاعَفٌ، وَبِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يُوسُفَ: 86) وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} (الْبَقَرَةِ: 109).
|